الشمس كانت بتشق طريقها بصعوبة من بين عمارات جاردن سيتي العالية، وبتنور خيوط التراب المتطايرة في هوا مكتب نور عبد الحميد. المكتب هو هو، نفس الكركبة المنظمة، ونفس ريحة القهوة البايتة. نور كانت قاعدة بتقلب في ورق قديم، باين على وشها إنها بتفكر في موضوع شاغلها بعيد عن الشغل.
حموكشة، مساعدها الأمين (واللي ذكاؤه زي سلك التليفون الأرضي)، كان بيحاول يصلح مكنة القهوة اللي قفشت منه كالعادة. "يا أستاذة نور! المكنة دي شكلها عاملة مؤامرة ضدي! مش عايزة تشتغل! يمكن عايزة بقشيش؟"
نور ردت من غير ما ترفع عينيها: "سيبها يا حموكشة، إنت اللي إيدك نحس عليها. هبقى أشوفها أنا بعدين."
في الركن المفضل بتاعه، على كنبة جلد قديمة متغطية بمفرش كروشيه، كان قاعد تيمور. قط شيرازي أبيض زي التلج، بعيون زرقا صافية بتلمع بذكاء فوق العادي. تيمور مكنش مجرد قط، كان فرد من العيلة، ومثقف بشكل يثير الريبة. كان بيقرا (أو بيتظاهر إنه بيقرا) نسخة قديمة من "جمهورية أفلاطون".
"صباح الفل يا معشر البشر الأقل تطوراً،" تيمور قال بصوت هادي ونبرة متعالية شوية، وهو بيقلب صفحة الكتاب بكف من كفوفه البيضا. "ألا يوجد في هذا الصباح ما هو أكثر إثارة للاهتمام من معاناتك الأزلية مع آلة صنع القهوة يا حموكشة؟"
حموكشة بصله بغيظ: "أنت تاني يا أبو فروة بيضا! عامل لي فيها فيلسوف وأنت آخرك تلحس طبق اللبن بتاعك! وبعدين مين اللي أقل تطوراً؟ ده أنا بعرف أفتح علبة التونة لوحدي!"
نور ابتسمت غصب عنها. حوارات حموكشة وتيمور اليومية كانت جزء من روتين المكتب. "صباح النور يا تيمور. قريت حاجة مفيدة النهاردة؟"
"أفلاطون لا يزال يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الواقع يا نور،" تيمور رد وهو بيعدل قعدته. "لكن يبدو أن الواقع الأكثر إلحاحاً الآن هو حالة الشرود التي تسيطر عليكِ. هل هي متاعب العمل المعتادة، أم شجون العائلة التي لا تنتهي؟"
نور اتنهدت. تيمور كان بيعرف يقرأها زي الكتاب المفتوح. "شويه كده وشويه كده يا تيمور. مكالمة ماما امبارح لسه معصباني. حاسة إنهم بيحبوا أخواتي أكتر مني."
حموكشة تدخل بسرعة: "يا أستاذة متزعليش نفسك، كل الأمهات كده! أنا أمي لحد دلوقتي فاكرة إن أخويا الصغير هو العبقري وأنا اللي طالع خايب مع إني أنا اللي بجيب لها طلبات السوق كل يوم!"
قبل ما نور ترد، سمعوا صوت مواء رقيق جاي من ناحية الشباك المفتوح اللي بيطل على الجنينة الصغيرة المهملة. مواء مختلف عن مواء تيمور الفلسفي.
تيمور رفع راسه فجأة، ودانه اتحركت زي الرادار. نظرة اهتمام حقيقي ظهرت في عينيه الزرقا لأول مرة الصبح ده.
المواء الرقيق اتكرر تاني. تيمور نط من على الكنبة بخفة ورشاقة متوقعة من قط أرستقراطي، ومشي ناحية الشباك. نور وحموكشة بصوا وراه بفضول.
على سور الجنينة، كانت قاعدة قطة! قطة بلدي لونها مشمشي فاتح، بعيون خضرا واسعة ولامعة، وحجمها أصغر شوية من تيمور. كانت بتبص حواليها بحذر وخجل.
حموكشة صفر: "الله الله! إيه المزة دي؟ شكلها تايهة ولا جاية زيارة؟"
تيمور وقف عند الشباك، متسمر في مكانه. لأول مرة من سنين، نور شافت نظرة مختلفة تماماً في عينيه. مش نظرة الذكاء المتعالي أو التحليل الفلسفي، دي كانت نظرة... انبهار! دهشة! إعجاب صريح!
"يا للروعة... يا للجمال الفطري غير المتكلف!" تيمور همس بصوت منخفض كأنه بيكلم نفسه. "تلك العيون الزمردية... وذلك الفراء الذي يجمع بين لون شمس الأصيل ونعومة الحرير! من تكون هذه الحورية التي هبطت على سور حديقتنا المتواضعة؟"
حموكشة ضحك بصوت عالي: "حورية إيه يا عم الفيلسوف! دي شكلها قطة شرسة من بتوع الشوارع، هتيجي تخربشك وتمشي!"
القطة المشمشية بصت ناحيتهم لما سمعت صوت حموكشة، وباين عليها الخوف. لسه هتنط وتهرب، لكن تيمور ميّو بصوت رقيق ومختلف عن صوته المعتاد، صوت فيه دعوة ودودة.
"لا تخافي أيتها الحسناء... نحن هنا أصدقاء."
القطة وقفت مترددة، بصت لتيمور بنظرة فضولية.
نور ابتسمت. "شكل تيمور بيه قلبه دق يا حموكشة."
"قلبه دق؟ ده شكله هيقع من طوله!" حموكشة قال وهو بيراقب تيمور اللي كان بيحاول يقرب من الشباك بحذر وجاذبية مصطنعة. "بس معلهش يا أبو التماتر، شكلها مش من مستواك الأرستقراطي ده خالص!"
تيمور تجاهل حموكشة تماماً، كل تركيزه كان على القطة اللي على السور. "ما اسمك أيتها الجميلة؟"
القطة ميّوت بصوت خافت: "اسمي لوزة."
"لوزة..." تيمور كرر الاسم كأنه بيتذوق كلمة سحرية. "اسم يليق برقتك وبهائك. أنا تيمور، فيلسوف هذا المكان ومفكر هذا الزمان."
حموكشة مكانش قادر يمسك نفسه من الضحك. "فيلسوف ومفكر زمانه! يا ابني أنت لو دخلت مسابقة جمال القطط البلدي دي هتكسب بالتزكية!"
لوزة ضحكت مواءة خفيفة، وباين إن كلام تيمور المعسول بدأ يأثر فيها. تيمور حس بانتصار صغير، وقرر يستعرض عضلاته الفكرية (أو الوهمية).
"هل تسمحين لي يا آنسة لوزة، أن أهديكِ بعض أبيات الشعر التي نظمتها للتو احتفاءً بظهورك البهي؟ أو ربما نناقش معاً إشكاليات الوجود عند سارتر؟"
لوزة ميّوت تاني، لكن المرة دي كان فيه لمحة حيرة في عينيها الخضرا.
(حموكشة: سارتر مين يا عم! قولها نلعب بالكورة الصوف أحسن!)نور كانت بتتفرج وهي مبتسمة. شكل تيمور وقع ومحدش سمى عليه. بس كان فيه سؤال في دماغها: لوزة دي جت منين؟ وهل هي فعلاً تايهة؟
في الأيام اللي بعد كده، بقت لوزة ضيفة شبه دايمة على سور جنينة مكتب نور. كانت بتيجي كل يوم الصبح، تقعد في الشمس تتفرج على تيمور وهو بيحاول يبهرها بثقافته الموسوعية ونظرياته الفلسفية.
"هل تعلمين يا عزيزتي لوزة، أن نظرية الأكوان المتعددة تفتح الباب لاحتمالات لا نهائية؟ ربما في كون آخر، أنا وأنتِ نجلس الآن تحت شجرة كرز يابانية ونتبادل قصائد الهايكو؟"
لوزة كانت بتمّي بمواءات رقيقة، ومش باين هي فاهمة حاجة ولا معجبة بالصوت وخلاص.
حموكشة كان بيتفرج عليهم وهو بيضرب كف بكف. "يا ابني ارحمنا! أكوان متعددة إيه وشعر هايكو إيه! قولها كلمة حلوة زي الناس، قولها يا قمر، يا عسل، يا حتة مانجة! يمكن تفهم!"
"أنت لا تفهم رقة المشاعر يا حموكشة،" تيمور رد بغرور. "العلاقات الحقيقية تُبنى على التوافق الفكري والروحي، وليس على كلمات مبتذلة كالتي تستخدمها أنت في محاولاتك اليائسة مع الآنسة لولو سكرتيرة مكتب المحاماة اللي جنبنا."
حموكشة وشه احمر. "ملكيش دعوة بـلولو يا أبو فروة! دي موضوع كبير عليك! وبعدين أنا مش يائس، أنا بس بستنى اللحظة المناسبة."
(اللحظة المناسبة اللي هي غالبًا لما القيامة تقوم، أو لما لولو تتخطب لحد غيره.)نور كانت مبسوطة بالتغيير اللي حصل لتيمور. بقى أكتر نشاط، وبدأ يهتم بنفسه تاني، وبينضف فروه الأبيض بعناية فائقة كل يوم قبل "معاد" لوزة. لكن في نفس الوقت، كانت قلقانة شوية. تيمور كان بيتعلق بـلوزة أوي، وهي عارفة إن فيه حقيقة مرة تيمور ميعرفهاش.
في يوم من الأيام، كانت لوزة قاعدة على السور كالعادة، وتيمور بيشرح لها نظريته عن "القط الكامن" في صندوق شرودنجر. الجو كان رومانسي بشكل فلسفي غريب. فجأة، نط قط تاني على السور، قط ضخم رمادي بعضلات مفتولة ونظرة شرسة.
"إيه يا حلوة قاعدة هنا بتعملي إيه؟" القط الرمادي قال بصوت خشن وهو بيقرب من لوزة.
لوزة اتخضت ورجعت لورا. تيمور وقف وقفة أسد (أو يعني قط شيرازي غضبان)، ونفش فروه الأبيض.
"ابتعد عنها أيها الهمجي المتطفل!" تيمور صاح بصوت حاولت تخليه مخيف. "هذه الآنسة في حمايتي الفكرية والمعنوية!"
القط الرمادي بصله من فوق لتحت بسخرية. "حماية فكرية؟ هاهاها! أنت هتهزر يا أبو فروة ناعمة؟ طب وريني عرض كتافك كده!" وبدأ يقرب أكتر من لوزة اللي كانت بترتعش.
هنا، غريزة الدفاع عن الحبيبة (أو المعجبة) اشتغلت عند تيمور. نط ناحية القط الرمادي وهو بيطلع صوت هسهسة ضعيف، محاولاً إخافته. لكن النتيجة كانت عكسية. القط الرمادي دفعه بكف واحد وقعّه من على الشباك جوه المكتب.
حموكشة ونور جروا على تيمور اللي كان واقع على الأرض وبيحاول يقوم وهو متلخبط. لوزة ميّوت بخوف وهربت بسرعة، والقط الرمادي نط وراها.
"شفت بقى نتيجة الفلسفة الزايدة!" حموكشة قال وهو بيساعد تيمور يقوم. "عامل لي فيها عنترة بن شداد وأنت آخرك تخربش كنبة! والقطة راحت يا معلم!"
تيمور كان مصدوم أكتر من إنه موجوع. بص من الشباك على مكان لوزة الفاضي، وحس بإحباط شديد. لكن بدل ما يلوم القط الرمادي، بص لنور بنظرة غريبة، نظرة فيها سؤال وجودي بدأ يتشكل في دماغه.
"نور... لماذا شعرت... بهذا الضعف المفاجئ؟ لماذا لم أستطع الدفاع عنها كما يجب؟ هل هناك... شيء لا أعرفه عن نفسي؟"
نور قلبها اتقبض. اللحظة اللي كانت خايفة منها جت. مكنتش عارفة ترد بإيه.
سؤال تيمور الوجودي علق في الهوا زي سحابة سودا. نور حاولت تغير الموضوع. "إنت كويس يا تيمور؟ متوجعتش؟ القط ده كان شكله بلطجي فعلاً."
لكن تيمور مكانش بيسمعها. عينيه الزرقا كانت مركزة على نقطة بعيدة، كأنه بيحاول يحل معادلة صعبة. "لماذا؟ لماذا لم تمتلكني الغريزة الكاملة للدفاع والتنافس؟ شعرت وكأن جزءًا مني... مفقود."
حموكشة حاول يخفف الجو: "يا عم تيمور فكك! غريزة إيه وبتاع إيه! المهم إنك سليم والقطة اللي زي لوزة دي يجيلك ألف واحدة غيرها! أنت بس تشاور بفروك الأبيض ده!"
"الأمر ليس بهذه البساطة يا حموكشة!" تيمور قال بحدة مفاجئة. "هناك شيء خطأ. شيء بداخلي ليس كما ينبغي أن يكون!" التفت لنور بنظرة مليانة شك. "نور... هل هناك ما تخفينه عني؟ شيء يتعلق... بماضيّ؟ بطفولتي؟"
نور معرفتش تهرب أكتر. خدت نفس عميق وقعدت على الكنبة جنب تيمور. "تيمور... حبيبي... فيه حاجة لازم تعرفها. أنا كنت مأجلاها عشان خايفة عليك وعلى مشاعرك."
(حموكشة بيهمس لنفسه: يا ساتر! شكلها فضيحة! هو القط ده طلع ابن ناس ولا إيه؟ يمكن طلع أمير مخطوف وهو صغير؟)تيمور انتظر بصبر نافذ، عضلاته متشنجة.
"فاكر لما كنت صغير أوي، وجبتك هنا وكنت لسه تعبان وضعيف؟" نور بدأت بحذر. "الدكتور البيطري اللي كان بيعالجك... قال إن فيه عملية صغيرة لازم تتعمل لك عشان صحتك العامة وعشان متتعبش لما تكبر..."
تيمور قاطعها بصوت مخنوق: "عملية؟ أي عملية؟"
نور غمضت عينيها للحظة وقالتها بسرعة: "عملية إخصاء يا تيمور."
الصمت اللي نزل على المكتب كان أتقل من الرصاص. حموكشة فتح بقه ومش عارف يقفله. تيمور فضل متجمد مكانه للحظات، كأن الكلمة دي دخلت ودانه ومفهمش معناها.
بعدين، ببطء شديد، بدأ يستوعب. ملامحه الأرستقراطية اتمحت وحل محلها تعبير من الصدمة المطلقة، عدم التصديق، ثم الألم العميق.
"إخصاء؟!" كرر الكلمة بصوت مهزوز كأنها لعنة. "أنا... أنا... غير مكتمل؟!" قام وقف فجأة وبدأ يلف حوالين نفسه، كأنه بيدور على الجزء المفقود. "لهذا السبب... لهذا السبب لم أستطع... لهذا السبب شعرت بهذا الفراغ؟!"
نظرته لنور اتغيرت تماماً. مبقاش فيها الثقة والدفء المعتاد، بقى فيها إحساس عميق بالخيانة والغدر.
"أنتِ... أنتِ فعلتِ هذا بي يا نور؟" صوته كان بيترعش بالغضب والألم. "أنتِ سلبتِ مني... جوهري؟! رجولتي؟! مستقبلي كأب لعشرات القطط الفلاسفة؟!"
(حموكشة: عشرات القطط الفلاسفة؟! الحمد لله إنها عملت لك العملية دي يا شيخ! كنا هنروح في داهية!)"تيمور، أنا عملت ده عشان مصلحتك، عشان صحتك..." نور حاولت تبرر ودموعها بدأت تتجمع.
"مصلحتي؟!" تيمور صاح. "أي مصلحة في حياة ناقصة؟! في وجود بلا هدف؟! لقد حكمتِ عليّ بالضياع الأبدي!"
ومن غير أي كلمة تانية، تيمور نط على كرسي المكتب، ومنه للشباك، واختفى في جنينة العمارة زي الشبح، سايب وراه صمت تقيل وإحساس بالخراب.
حموكشة بص لنور المنهارة: "يا أستاذة... إيه اللي حصل ده؟ هو القط زعل أوي كده ليه؟ يعني هي عملية وخلاص، مش نهاية العالم يعني! ده حتى بيقولوا بتطول العمر!"
نور بصت لمكان تيمور الفاضي بقلب مكسور. "مش فاهم يا حموكشة... بالنسباله دي كانت نهاية العالم فعلاً."
هروب تيمور مكنش مجرد زعل قطة وهترجع تاني لما تجوع. كان انهيار لعالم كامل كان تيمور بانيه لنفسه. عالم الفلسفة، والثقافة، والشعور بالتفوق الفكري على البشر والقطط الأخرى. كل ده اتهد في لحظة لما اكتشف الحقيقة "الناقصة".
نور كانت هتتجنن. دورت عليه في كل حتة حوالين العمارة، نادت عليه، حطت له طبق التونة المفضل بتاعه عند الشباك، لكن مفيش أي أثر لتيمور.
"يا أستاذة اهدي بس،" حموكشة كان بيحاول يواسيها بطريقته. "هو قط يعني، مش بني آدم. يومين وهينسى ويرجع تاني لما بطنه تصوصو. أنتِ بس اللي واخدة الموضوع على أعصابك زيادة."
"مش فاهم يا حموكشة! تيمور مش أي قط!" نور قالت بعصبية. "ده بيفكر وبيحس زينا ويمكن أكتر! أنا اللي دمرت له حياته! أنا السبب!"
حالة نور النفسية كانت في الحضيض. إحساسها بالذنب تجاه تيمور اختلط بإحساسها القديم بأنها دايماً بتخذل اللي بتحبهم، زي ما حاسة إن أهلها بيخذلوها أو مش شايفينها كفاية. فضلت تكلم أهلها كتير في التليفون، تشتكي وتعيط، لكن كانوا بيردوا بنفس البرود العملي المعتاد: "يا بنتي كبري دماغك، ده مجرد قط!" وده كان بيزود إحساسها بالوحدة أكتر.
(حموكشة لنفسه: يا خبر! الأستاذة شكلها هتنهار هي كمان! طب أطلب لها دليفري يمكن الأكل يهديها؟ ولا أعمل لها شاي بلبن؟ القط ده عمل لنا مصايب والله.)في نفس الوقت، كان حموكشة بيحاول يستغل غياب تيمور عشان ياخد فرصته مع لولو، سكرتيرة مكتب المحاماة اللي جمالها كان بيشتت تركيزه أكتر من ريحة الكشري. قرر يروح لها المكتب بحجة إنه بيسأل على عنوان وهمي.
"يا آنسة لولو يا قمر،" حموكشة قال وهو بيحاول يعمل فيها تقيل. "كنت بسأل بس على مكتب الأستاذ... الأستاذ... برعي بتاع المفاتيح؟ أصله قفل موبايله ومش عارف أوصله."
لولو بصت له بقرف من فوق لتحت. "برعي مين يا أستاذ؟ حضرتك شكلك غلطان في العنوان. ولو سمحت وسع عشان ورايا شغل." وقفلت الباب في وشه.
(حموكشة وهو راجع مكتب نور: ماشي يا لولو يا متكبرة! بكرة تندمي لما أبقى أشهر مساعد محقق في مصر... أو لما أفتح عربية الكبدة!)الجو في المكتب بقى كئيب وموتر. نور قلقانة ومهمومة، وحموكشة محبط عاطفياً وجعان كالعادة، وتيمور مختفي ومحدش عارف عنه حاجة. حتى مكنة القهوة كانت بتطلع أصوات غريبة كأنها بتشاركهم الحزن.
أما تيمور، فكان بيعيش أسوأ أيام حياته. هو، القط الأرستقراطي المثقف، اللي كان بيقضي أيامه بين الكتب والكنب الوثير ووجبات التونة الفاخرة، لقى نفسه فجأة في شوارع القاهرة القاسية.
مكنش متعود على حياة الشارع. الضوضاء كانت بتصم ودانه، زحمة العربيات كانت بترعبه، وريحة الزبالة المنتشرة كانت بتقلب معدته. حاول يصطاد فار مرة، لكن الفار كان أذكى وأسرع منه بكتير (وده جرح كبرياؤه الفلسفي أكتر).
"يا لعبثية القدر!" تيمور كان بيكلم نفسه وهو قاعد تحت عربية قديمة مصدية بيحتمي من الشمس الحارقة. "أنا، تيمور، سليل الفكر والحضارة، أصبحت مجرد قط متشرد يتضور جوعاً ويبحث عن مأوى في عالم لا يعترف إلا بلغة القوة والبقاء!"
قابل أنواع وأشكال من قطط الشوارع. منهم قط عجوز وحكيم اسمه "سنجاب" (رغم إنه قط مش سنجاب)، حاول ينصحه:
"يا ابني يا أبيض يا حلو،" سنجاب قاله وهو بيمضغ بواقي سمكة لقاها. "الدنيا دي مبتديش للي بيقعد يفكر كتير. لازم تكشر عن أنيابك (حتى لو مش هتستخدمها)، وتتعلم إزاي تسرق أكل من غير ما تتقفش، وتعرف إمتى تهرب وإمتى تقف."
لكن تيمور مقدرش يتأقلم. كل ما يشوف قطة أنثى، كان بيفتكر لوزة، وبيفتكر الحقيقة المرة اللي حرمته من حقه الطبيعي في الحب والتكاثر. الإحساس بالنقص وبالخيانة كان بيطارده في كل مكان.
"ما جدوى الجمال إذا كان ناقصاً؟ ما قيمة الفكر إذا كان الجسد عاجزاً؟ ما معنى الحياة... إذا كنت مجرد ظل لوجود مكتمل لم يُقدر لي أن أعيشه؟"
حاول يناقش الأفكار دي مع القطط التانية، لكن أغلبهم كانوا بيبصوله باستغراب أو بيفتكروه مجنون. اهتماماتهم كانت أبسط بكتير: الأكل، النوم في مكان آمن، والهروب من الكلاب ومن البشر القاسيين.
في يوم، وهو ماشي تايه وضعيف في شارع جانبي، لمح محل سمك. ريحة السمك المقلي كانت قوية ومغرية. شاف قطة تانية بتحاول تخطف سمكة صغيرة وقعت من صاحب المحل، لكن صاحب المحل ضربها بقسوة وطردها.
تيمور حس بمزيج من الخوف والاشمئزاز. هل دي هي الحياة اللي المفروض يعيشها؟ هل ده هو المصير المحتوم لكل من هو "ناقص" أو مختلف؟ إحساس بالظلم وبالعبثية بدأ يتغلغل جواه.
(حموكشة في المكتب بيحاول يوصل لتيمور بالتخاطر: أبو التماتر! لو سامعني، مكانك مش في الشارع! مكانك هنا جنبي ناكل ونشرب ونتفرج على التليفزيون! بس متقعدش تتفلسف والنبي!)وقف تيمور في نص الشارع، والمطر بدأ ينزل خفيف. بص للسما الرمادي الكئيبة، وحس ببرودة مش بس في جسمه، لكن في روحه كمان. هل فيه أي معنى لكل ده؟
مر أسبوع على اختفاء تيمور. نور كانت زي التايهة. شغلت حموكشة وكل معارفها يدوروا عليه في كل حتة. طبعت صور لتيمور ووزعتها في الشوارع المحيطة بالمكتب، وسألت حراس العمارات والبوابين وأصحاب المحلات.
"محدش شافه يا أستاذة،" حموكشة كان بيرجع كل يوم محبط أكتر من اليوم اللي قبله. "كأن الأرض انشقت وبلعته. يمكن يكون سافر اليونان يكمل دراساته الفلسفية هناك؟"
"بطل استظراف يا حموكشة!" نور زعقت فيه وعينيها مليانة دموع. "أنا اللي ضيعته! لو حصله حاجة مش هسامح نفسي!"
حالة نور أثرت على شغلها. بقت مش مركزة، وبترفض أي قضايا جديدة. كل تفكيرها كان في تيمور وفي إحساسها بالفشل والذنب. حتى كلامها مع أهلها قلّ، وبقت حاسة بفجوة كبيرة بينهم وبينها.
"يا بنتي إنتي مكبرة الموضوع أوي،" مامتها قالت لها في التليفون. "خلاص قط وراح لحاله، ربنا يعوضك بواحد غيره. المهم أخوكي الدكتور شريف خطب، مش هتيجي تباركي له؟"
نور قفلت السكة وهي حاسة بغصة في حلقها. حتى في قلقها ده، هم مش حاسين بيها، كل همهم في شريف أخوها الكبير اللي دايماً "ناجح" و"رافع راسهم". إحساسها بأنها أقل منهم رجع يسيطر عليها.
حموكشة، رغم غباءه المعتاد، كان ملاحظ حالة نور وحاول يساعد بطريقته. قرر يعمل تحريات خاصة عن الآنسة لولو، يمكن لو عرف عنها حاجة يقدر يستخدمها عشان يفتح معاها كلام (أو يمكن عشان يعرف هي بتحب الكشري ولا الفتة أكتر).
(حموكشة وهو بيراقب لولو من بعيد: بتشرب عصير قصب! يبقى أكيد بتحب الأكل الشعبي! دي فرصتي!)راح حموكشة تاني يوم لكشك عصير القصب اللي جنب مكتب المحاماة وعمل نفسه بيشتري عصير.
"إيه يا عم الحاج، العصير ده مضروب ولا إيه؟" حموكشة قال لبتاع العصير وهو بيغمز بعينه ناحية مكتب لولو. "أصلي شايف الآنسة القمر اللي هناك دي بتشربه كل يوم، قلت أكيد حاجة نظيفة."
بتاع العصير بصله بقرف: "عصير قصب مضروب إيه يا جدع أنت! ده قصب بلدي طازة! والآنسة دي بتيجي تاخد عصير عشان الدكتور بتاعها قال لها مفيد للأنيميا!"
"أنيميا؟!" حموكشة حس بإحباط شديد. خطته باظت، وكمان لولو طلعت عيانة وهو مكنش يعرف. قرر يغير الخطة ويحاول يلعب دور المنقذ.
رجع المكتب ولقى نور قاعدة بنفس اليأس. "يا أستاذة نور، لازم نلاقي تيمور ده بسرعة. أنا حاسس إنه مش بخير. وكمان... اكتشفت إن لولو عندها أنيميا ومحتاجة حد يهتم بيها!"
نور بصت له بذهول: "لولو مين اللي عندها أنيميا يا حموكشة! ركز معايا! تيمور هو اللي في خطر!"
في نفس الوقت، كان تيمور بيزداد يأسه يوم عن يوم. ضعف من قلة الأكل، وفروه الأبيض الأنيق اتملى طين. مبقاش قادر حتى يفكر في الفلسفة أو الكتب، كل اللي كان بيشغل باله هو إحساسه بالظلم وبالفراغ.
"ما فائدة كل المعرفة إذا كانت الحياة نفسها بلا طعم وبلا معنى؟" كان بيكلم قطة عجوزة شمطاء شافها قاعدة جنب صندوق زبالة. "أخبريني أيتها الحكيمة، هل هناك ضوء في نهاية هذا النفق المظلم؟"
القطة الشمطاء بصت له بعين واحدة (التانية كانت مقفولة من خناقة قديمة)، وميّوت بصوت أجش: "نفق إيه يا أبو عنين زرق! مفيش أنفاق هنا، فيه بس زبالة وكلاب مسعورة! لو عايز نصيحتي، كل وأنت ساكت قبل ما حد يخطف منك اللقمة!"
إجابتها العملية دي زادت إحساس تيمور باليأس. مفيش حد فاهمه، مفيش حد حاسس بمعاناته الوجودية. حس إنه لوحده تماماً في عالم قاسي ومادي.
في ليلة من الليالي، وصل يأس تيمور لذروته. كان قاعد على حافة سطح عمارة قديمة، بيبص تحت على الشارع الصاخب والأضواء المبهرة اللي مبقتش تعني له أي حاجة. المطر كان بدأ ينزل تاني، بيغسل التراب من على جسمه، لكنه محسش بيه.
"وداعاً أيها العالم القاسي،" تيمور همس والدموع بتلمع في عينيه الزرقا. "وداعاً يا لوزة التي لم تكتمل قصتنا. وداعاً يا نور... سامحيني إن استطعتِ."
كان لسه بيستجمع شجاعته عشان يرمي نفسه، لما سمع صوت مواء ضعيف جاي من وراه. التفت ببطء، ولقى قطة صغيرة، هزيلة جداً، لونها أسود فاحم، قاعدة بترتعش من البرد وبتبصله بعيون واسعة خايفة.
"أنت... أنت مين؟" القطة سألت بصوت واطي.
تيمور اتفاجئ. مكنش متوقع يلاقي حد على السطح ده في الوقت ده. "أنا... أنا تيمور."
"أنا فلفلة،" القطة الصغيرة قالت. "أنا تايهة وماما مش لاقياني. والدنيا بتمطر وأنا بردانة أوي."
للحظة، نسى تيمور يأسه وكآبته. شاف الخوف والضعف في عيون فلفلة، وحس بشعور غريب مبقاش يحس بيه من فترة: الشفقة والرغبة في المساعدة.
"لا تخافي يا صغيرة،" تيمور قال بصوت أهدى، وقرب منها بحذر. "تعالي احتمي جنبي هنا، فروي الأبيض قد لا يكون ناصعاً كما كان، لكنه لا يزال دافئاً."
فلفلة قربت منه بتردد ولزقت في جسمه، بترتعش. تيمور لف جسمه حواليها عشان يدفيها.
"أنت طيب أوي،" فلفلة قالت بعد شوية وهي حاسة بالأمان.
كلمتها البسيطة دي لمست وتر حساس جوه تيمور. هو طيب؟ رغم كل اللي حاسس بيه من نقص وظلم؟
فضلوا قاعدين كده فترة، ساكتين، بيسمعوا صوت المطر وهو بيخبط على الصاج القديم للسطح. لأول مرة من أيام، تيمور محسش إنه لوحده. وجود فلفلة جنبه، واحتياجها ليه، خلاه يحس بنوع مختلف من الأهمية.
مع طلوع الفجر، المطر وقف. تيمور بص لفلفلة اللي كانت نامت في حضنه. لازم يساعدها تلاقي مامتها. لازم يرجعها لأمانها.
"هيا يا صغيرة،" تيمور صحاها بهدوء. "علينا أن نبدأ البحث عن والدتك."
نزل تيمور من على السطح وهو شايل فلفلة بحرص (أو بالأحرى هي كانت متعلقة في رقبته). مبقاش بيفكر في الموت أو في عبثية الوجود، بقى عنده هدف جديد، مهمة لازم ينجزها. رحلته لسه مخلصتش، لكن شكلها بتاخد مسار مختلف تماماً.
(حموكشة في المكتب وهو بيحلم: يا رب تيمور يرجع ومعاه كنز! أو على الأقل خريطة لمكان بيبيع كفتة رخيصة!)مهمة البحث عن والدة فلفلة مكانتش سهلة. شوارع القاهرة واسعة ومليانة قطط، وفلفلة كانت صغيرة ومش فاكرة غير حاجات بسيطة عن المكان اللي تاهت منه.
"كان فيه... كان فيه شجرة كبيرة أوي، وصوت مزيكا عالي جاي من بيت قريب،" فلفلة قالت وهي بتحاول تفتكر.
تيمور، بخبرته الفلسفية (اللي بدأ يستخدمها في أمور عملية لأول مرة)، بدأ يحلل المعلومات دي. "شجرة كبيرة وموسيقى صاخبة... هذا قد يشير إلى منطقة حدائق أو ربما مقهى أو مطعم به أماكن خارجية."
بدأوا رحلة البحث. تيمور كان بيحمي فلفلة من مخاطر الشارع، بيشاركها أي لقمة أكل يلاقيها (وده كان تحدي كبير لقط أرستقراطي متعود على الخدمة الفندقية)، وبيحاول يلاقي أي علامة تدل على مكان أهلها.
قابلوا في طريقهم شخصيات قططية مختلفة. منهم "برنس"، قط سيامي عجوز فقد بصره لكن حاسة شمه قوية جدًا، ساعدهم يتجنبوا منطقة فيها كلاب شرسة. ومنهم "شطة"، قطة بلدي شقية وسريعة بتعرف كل حواري المنطقة، دلتهم على أماكن ممكن يلاقوا فيها بواقي أكل كويسة.
(حموكشة في المكتب: يا رب تيمور يقابل قط يعرف يقرأ الطالع! يمكن يعرف لنا لولو هتوافق عليا إمتى؟!)خلال الرحلة دي، تيمور بدأ يتغير من غير ما يحس. اهتمامه بمساعدة فلفلة شغله عن التفكير في مشاكله الخاصة. بقى بيستخدم ذكاءه عشان يلاقي حلول لمشاكل حقيقية زي إيجاد الأكل والمأوى، مش بس عشان يتفلسف. بقى مضطر يتعامل مع قطط الشوارع اللي كان شايفهم "همج" قبل كده، واكتشف إن عندهم حكمة وبساطة وقدرة على التأقلم هو نفسه مفتقدها.
"غريب أمر هذه الحياة،" تيمور قال لسنجاب القط العجوز في ليلة كانوا قاعدين فيها فوق سور واطي. "كنت أبحث عن الكمال في ذاتي، والآن أجد معنى لوجودي في مساعدة كائن آخر أضعف مني."
سنجاب ضحك ضحكة قطط عجوزة. "الكمال ده وهم يا ابني. كلنا ناقصين بطريقة أو بأخرى. المهم نعرف نتعايش مع النقص ده، ونلاقي حاجة تانية تدي لحياتنا قيمة."
كلام سنجاب البسيط ده رن في دماغ تيمور أكتر من كل كتب الفلسفة اللي قراها. بدأ يفكر: هل فعلاً قيمته كـ"ذكر" كانت هي القيمة الوحيدة؟ هل مقدرش يكون مفيد ومهم بطرق تانية؟
في نفس الوقت، كانت نور وحموكشة مستمرين في البحث. حموكشة، في محاولة يائسة لإثارة إعجاب لولو، قرر يوزع صور تيمور حوالين مكتب المحاماة. ولحسن حظه (أو لسوء حظ لولو)، لولو طلعت بتحب القطط جدًا.
"الله! قط جميل أوي!" لولو قالت لما شافت صورة تيمور. "ده تايه؟ ياروحي! لو شفته في أي حتة هكلمكم علطول!"
حموكشة حس إن قلبه هيقف من الفرحة. دي أول مرة لولو تكلمه بلطف كده! "أي خدمة يا قمر! أنا ونور بندور عليه بقالنا أيام. لو لقيتيه يبقى ليكي عندي علبة جاتوه!"
(طبعاً لو لقوه، حموكشة كان هيقول إن الجاتوه وقع منه في السكة).الخيوط بدأت تتجمع ببطء. تيمور في رحلة اكتشاف ذات جديدة، ونور وحموكشة ورا أثره، ومعاهم مساعدة غير متوقعة من لولو.
بعد يومين كمان من البحث، وتيمور خلاص كان قرب ييأس من إنه يلاقي أهل فلفلة، لمحوا حاجة من بعيد. شجرة كافور ضخمة جدًا، أضخم شجرة شافوها في المنطقة، وجنبها بيت قديم طالع منه صوت أغاني صاخبة ومهرجانات.
"هي دي! هي دي الشجرة!" فلفلة ميّوت بحماس وهي بتنط من على كتف تيمور. "وصوت الأغاني ده كمان! ده بيت عمو سيد اللي كان بيأكلنا بواقي الكشري!"
قلب تيمور دق أسرع. هل ممكن تكون دي النهاية السعيدة لرحلة البحث؟
قربوا بحذر من البيت، وشافوا قطة مشمشية كبيرة قاعدة قلقانة عند الباب وبتمّي بصوت عالي كأنها بتنادي على حد. كانت شبه فلفلة جدًا!
"ماما!" فلفلة صرخت وجريت ناحيتها.
القطة الأم شافتها وجريت عليها هي كمان، وفضلوا يشموا في بعض ويمّوا بسعادة غامرة. تيمور وقف يتفرج على المشهد وهو حاسس بمزيج من الفرحة والارتياح... وشعور خفيف بالحزن لأنه مش هيكون جزء من لم الشمل ده.
القطة الأم بصت لتيمور بامتنان. "أنت اللي رجعت لي بنتي؟ أنا متشكرة أوي أوي! بقالي أيام بدور عليها زي المجنونة!"
"لا شكر على واجب أيتها السيدة الفاضلة،" تيمور رد بأدبه المعتاد اللي بدأ يرجع له. "لقد كانت فلفلة رفيقة رحلة شجاعة وملهمة."
فلفلة جريت على تيمور تاني وحكت أنفها في رجله. "شكرًا يا تيمور! أنت أحسن قط في الدنيا!"
جملتها دي، وامتنان القطة الأم، خلوا تيمور يحس بدفء حقيقي جوه قلبه. حس إنه عمل حاجة صح، حاجة ليها معنى بغض النظر عن أي نقص فيه.
ودع تيمور فلفلة ومامتها، وبدأ يمشي لوحده تاني. لكن المرة دي مكانش ماشي تايه أو يائس. كان ماشي وهو بيفكر. بيفكر في كلام سنجاب، وفي تجربة الأيام اللي فاتت، وفي إحساسه بالرضا لما ساعد فلفلة. هل ممكن يلاقي معنى لحياته في مساعدة الآخرين؟ في استخدام ذكائه ومعرفته في حاجة مفيدة؟
وهو ماشي سرحان، خبط في حاجة ناعمة. بص تحت لقى كيس بلاستيك فيه بقايا سندوتش شاورما! (أكيد حد رماه من عربية). لأول مرة من أيام، حس بالجوع الحقيقي ورغبته في الأكل رجعت له.
(حموكشة في المكتب بيحلم: يا رب ألاقي كيس فيه فلوس تحت الكنبة! يا رب!)في نفس اللحظة تقريبًا، كانت لولو ماشية مروحة من شغلها، ولمحت قط أبيض متبهدل شوية قاعد بياكل بشراهة من كيس بلاستيك. شكل القط فكرها بالصورة اللي شافتها مع حموكشة. قربت منه بحذر.
"بس بس... أنت... أنت تيمور؟"
تيمور رفع راسه من كيس الشاورما، ولقى لولو واقفة قدامه بابتسامة رقيقة.
لما لولو كلمت حموكشة وقالت له إنها لقت قط شبه تيمور، حموكشة كان هيطير من الفرحة (مش عشان تيمور، لكن عشان لولو كلمته!). جاب نور وجريوا على المكان اللي لولو وصفتلهم.
لقوا تيمور قاعد جنب لولو اللي كانت بتحاول تطبطب عليه بحذر وهو بيخلص على آخر فتفوتة شاورما في الكيس.
"تيمور!" نور جريت عليه وهي مش مصدقة إنه قدامها. هو بص لها، ومكنش فيه نفس نظرة الغضب أو الخيانة بتاعت آخر مرة. كان فيه تعب، وشوية حذر، لكن كمان لمحة هدوء غريبة.
"أهلاً يا نور،" تيمور قال ببساطة وهو بيلحس شنبه اللي عليه طحينة. "يبدو أن أقدارنا شاءت أن نلتقي مجدداً."
حموكشة كان مشغول أكتر بـلولو. "يا آنسة لولو يا بركة دعا الوالدين! متشكرين أوي إنك لقيتي أبو التماتر ده! ليكي عندي عزومة كشري بالتقلية زيادة عشان المجهود الجبار ده!"
لولو ضحكت. "لا شكر على واجب. المهم إنكم لقيتوه وهو شكله كويس."
(حموكشة لنفسه: كويس إيه بس ده شكله خارج من فيلم أكشن! بس يلا أهو سبب عشان لولو تتكلم معايا تاني!)رجعوا التلاتة (نور وحموكشة وتيمور) على المكتب. تيمور دخل ومشي بهدوء وراح قعد على الكنبة بتاعته كأن محصلش حاجة، لكن كان واضح إنه مختلف.
نور قربت منه وقعدت جنبه. "حمدلله على السلامة يا تيمور. قلقتنا عليك أوي."
"لا داعي للقلق يا نور،" تيمور رد وهو بيبص لها مباشرة. "لقد كانت رحلة ضرورية... وإن كانت شاقة. رحلة جعلتني أرى الأمور بمنظور مختلف."
"منظور مختلف إزاي؟"
"أدركتُ أن القيمة ليست فقط في الاكتمال الجسدي أو التفوق العقلي. هناك قيمة أكبر في التعاطف، في مساعدة الآخرين، في إيجاد هدف يتجاوز الذات. لقد ساعدتُ قطة صغيرة تائهة، وهذا الشعور بالرضا كان أعمق من أي شعور بالفخر حققته من قراءة هيجل أو كانط."
نور حست بفرحة حقيقية وهي بتسمعه. ده تيمور اللي تعرفه، لكن بنضج وحكمة جديدة.
"يعني أنت... مش زعلان مني؟"
تيمور بص لها نظرة طويلة، فيها عتاب خفيف لكن كمان فيها بداية مسامحة. "الجرح لا يزال موجوداً يا نور، ولا أعتقد أنه سيختفي تماماً. لكنني بدأت أفهم دوافعكِ، حتى وإن كنت لا أوافق عليها. ربما... ربما يمكننا أن نبدأ من جديد، ليس كقط ومربيته، ولكن كصديقين يحاول كل منهما فهم الآخر وتقبله بعيوبه... ونقصه."
(حموكشة بيمسح دمعة مزيفة: الله! كلام كبير أوي! أنا لازم أسجل الكلمتين دول وأبعتهم لـلولو في رسالة واتس!)نور ابتسمت من قلبها وحضنت تيمور اللي المرة دي بادلها الحضن بمواءة خافتة.
رجوع تيمور غيّر جو المكتب تماماً. صحيح لسه فيه لحظات بيسرح فيها أو يبان عليه الحزن لما يفتكر اللي حصل، لكن مبقاش فيه نفس اليأس المدمر. بدأ يرجع لروتينه القديم، لكن بشكل مختلف.
رجع يقرأ كتبه، لكن بدل ما يناقشها مع نفسه بغرور، بدأ يشارك نور أفكاره ويتناقش معاها بجدية وهدوء. وبدل ما يتريق على غباء حموكشة، بقى ساعات بيحاول يديله نصايح (فلسفية زيادة عن اللزوم طبعاً) في مشاكله العاطفية المستمرة مع لولو.
"يا حموكشة، مشكلة الحب في مجتمعنا المعاصر تكمن في السطحية والبحث عن المظاهر. بدلاً من إرسال أغاني المهرجانات للآنسة لولو، لماذا لا ترسل لها مقالاً عن جماليات الفن التشكيلي عند فان جوخ؟"
حموكشة بصله بيأس: "فان جوخ مين يا أبو التماتر! هي لولو هتعرف تقرا اسمه أصلاً! وبعدين هي شكلها بتحب الورد أكتر من الفن. تفتكر لو جبت لها وردة بلدي من جنينة المكتب دي هتفرح؟"
(وطبعاً لما حموكشة حاول يقطف وردة، اتشوك ووقع في الطين، ولولو شافته من الشباك وقعدت تضحك).نور كمان بدأت تتغير. رؤية تيمور وهو بيحاول يلاقي معنى جديد لحياته رغم الجرح اللي جواه، شجعتها تواجه مشاكلها هي كمان. بدأت تتكلم مع أهلها بهدوء أكتر عن إحساسها بالإهمال، ومبقاش هدفها بس إنهم يعترفو بغلطهم، قد ما هدفها إنهم يفهموا مشاعرها.
"يا ماما أنا مش غيرانة من شريف ومها،" نور قالت في مكالمة تليفونية. "أنا بس ساعات بحس إني مش متشافة، إني مجرد البنت العملية اللي بتعرف تتصرف، مش البنت اللي محتاجة حضن أو كلمة حلوة زي أي حد."
رد مامتها مكانش مثالي، لكن كان فيه بداية تفهم. "يا حبيبتي إحنا بنحبك طبعاً، بس يمكن عشان إنتي اللي دايماً قوية ومستقلة بننسى إنك لسه بنتنا الصغيرة."
الحياة في المكتب خدت شكل جديد. فيه تصالح أكتر، ومحاولات للفهم المتبادل، وإن كان لسه فيه منغصات كوميدية بسبب حموكشة وفلسفة تيمور الزايدة.
تيمور بدأ يهتم كمان بالقطط اللي بتيجي عند الشباك. مبقاش بيبصلهم بتعالي، بقى بيشاركهم أكله ساعات، أو بينصحهم (بلغة القطط طبعاً) إزاي يتجنبوا عربية الزبالة الصبح.
لكن هل ده كفاية؟ هل تيمور فعلاً اتعافى؟ ولا دي مجرد مرحلة هدوء قبل عاصفة جديدة؟
الهدوء النسبي اللي رجع للمكتب اتكسر في يوم من الأيام لما لوزة ظهرت تاني على سور الجنينة.
تيمور شافها من بعيد وهو قاعد بيقرأ. قلبه دق بسرعة، وحس بنفس الانبهار الأولاني، لكن كمان حس بخوف من الذكرى الأليمة المرتبطة بيها. فضل قاعد مكانه، متردد يقرب ولا لأ.
حموكشة لمحه وهو متنح. "إيه يا أبو التماتر؟ المزة القديمة رجعت تاني؟ يلا قوم وريهم الشغل بقى! المرة دي متتخانقش، اعزمها على طبق تونة دايت!"
لوزة ميّوت بصوت رقيق كأنها بتنادي على تيمور. هو بص لها، وبعدين بص لنور كأنه بيستأذنها أو بيطلب الدعم.
نور ابتسمت له ابتسامة مشجعة. "روح يا تيمور. واجه خوفك. أنت أقوى من الأول."
تيمور خد نفس عميق، ونط على الشباك. لوزة لما شافته قربت منه بمواءة ودودة.
"تيمور! بقالك كتير مختفي!" لوزة قالت.
"لقد... لقد كنت في رحلة تأملية يا عزيزتي لوزة،" تيمور رد وهو بيحاول يحافظ على نبرته الفلسفية. "رحلة للبحث عن الذات المفقودة بين أزقة الوجود."
لوزة بصت له باستغراب: "رحلة إيه بس؟ أنت شكلك متبهدل خالص! كنت بتتخانق تاني؟"
في اللحظة دي، نط القط الرمادي البلطجي تاني على السور، ومعاه قطتين تانيين شكلهم أشرار.
"أهو أبو فروة أبيض رجع تاني!" القط الرمادي قال بسخرية. "لسه عامل فيها فيلسوف؟ ولا المرة دي هتوريني شطارتك بجد؟"
لوزة اتخضت ولزقت في تيمور. تيمور حس بنفس الخوف القديم، ونفس الإحساس بالعجز. لكن المرة دي، افتكر كلام سنجاب، وافتكر إحساسه بالقوة لما دافع عن فلفلة. القوة مش بس في العضلات، القوة كمان في الذكاء وفي حماية الضعيف.
"أيها الرمادي المتعجرف!" تيمور قال بصوت ثابت وقوي مفاجئ. "قوتك في عضلاتك، أما قوتي فهي في عقلي! هل تعتقد أنك تستطيع هزيمتي في جولة من الألغاز المنطقية؟ أم أنك تخشى أن يظهر جهلك أمام هذه الجميلة؟"
القط الرمادي والقطط اللي معاه بصوا لبعض باستغراب. ألغاز منطقية؟ إيه الكلام الغريب ده؟
(حموكشة من الشباك: ألغاز إيه يا عم! قول له تعالى نلعب سيجة طيب!)ارتباك القطط البلطجية ده إدى فرصة لتيمور. بص للوزة بسرعة وهمس: "اهربي الآن يا لوزة! بسرعة!"
لوزة فهمت ونطت من على السور واختفت. القط الرمادي لسه هيجري وراها، لكن تيمور ميّو بصوت عالي: "انتظر! لدي لغز لك: ما هو الشيء الذي يمشي على أربع في الصباح، وعلى اثنتين في الظهيرة، وعلى ثلاث في المساء؟ أجب إن استطعت!"
القط الرمادي وقف متنح بيحاول يفهم اللغز العجيب ده، وده إدى وقت كفاية لتيمور إنه ينط هو كمان جوه المكتب ويقفل الشباك وراه بسرعة.
"نجونا بأعجوبة!" حموكشة قال وهو بيتنفس بصعوبة. "بس أنت إيه ياض يا تيمور الألغاز دي! ده أنت طلعت داهية!"
تيمور كان لسه بيتنفس بسرعة، لكن كان حاسس بانتصار مختلف. معرفش يتخانق، لكن قدر يحمي لوزة بذكائه. بص لنور بابتسامة خفيفة.
"يبدو أن العقل يمكن أن يكون سلاحاً أيضاً يا نور."
نور ابتسمت. "بالظبط يا تيمور. أنت استخدمت قوتك الحقيقية."
لكن هل المواجهة دي حلت مشكلة تيمور مع نفسه؟ ولا فتحت جرح قديم؟
بعد مواجهة القط الرمادي، تيمور حس إنه محتاج يتكلم. قعد جنب نور على الكنبة، وهي سابت الورق اللي في إيدها وركزت معاه.
"نور... رؤية لوزة مرة أخرى... والقط الرمادي... أعادت إليّ بعض الذكريات المؤلمة. لا أستطيع أن أنكر أن جزءًا مني لا يزال يشعر بالمرارة تجاه ما حدث."
"وأنا فاهمة ده يا تيمور، ومن حقك تزعل وتحس بالظلم." نور قالت بهدوء. "أنا كمان ساعات بحس بالظلم، لما أحس إن أهلي مش مقدريني أو بيقارنوني بإخواتي. كل واحد فينا عنده جروحه ونواصه."
تيمور بص لها باهتمام. دي أول مرة نور تتكلم عن مشاعرها بالوضوح ده قدامه.
"هل تشعرين حقاً بهذا؟ أنتِ، نور، القوية، الذكية، المستقلة؟"
"طبعاً يا تيمور. القوة اللي بنظهرها دي ساعات بتكون غلاف بنخبي وراه ضعفنا وخوفنا. الإحساس بالنقص أو بأننا مش كفاية ده إحساس إنساني (أو قططي!) طبيعي."
حموكشة، اللي كان بيسمع من بعيد وهو بيعمل نفسه بيرتب المكتب، تدخل:
"والله يا أستاذة كلامك ده زي البلسم! أنا كمان بحس إني ناقص ساعات! ناقص فلوس، وناقص واسطة، وناقص واحدة حلوة زي لولو توافق عليا! بس أهو بنعافر!"نور وتيمور ضحكوا غصب عنهم. وجود حموكشة ببساطته دي كان بيخفف أي جو درامي.
"إذاً... كيف نتعايش مع هذا النقص يا نور؟ كيف نجد المعنى في وجود يبدو أحياناً مجرد سلسلة من الخيبات؟"
"يمكن... يمكن المعنى مش في الكمال يا تيمور." نور قالت وهي بتفكر. "يمكن المعنى في الرحلة نفسها. في محاولاتنا، في تعلمنا من أخطائنا، في علاقاتنا باللي حوالينا، في حبنا ليهم وتقبلنا ليهم بعيوبهم زي ما بنحب إنهم يتقبلونا بعيوبنا."
تيمور فضل ساكت شوية، بيتأمل كلامها. بص ناحية الشباك، وبعدين رجع بص لنور.
"هل... هل هذا يعني أنكِ... تسامحينني على هروبي وابتعادي؟"
"أنا عمري ما زعلت منك يا تيمور. أنا اللي كنت محتاجة سماحك."
"وربما... ربما أستطيع الآن أن أبدأ في مسامحتكِ أنتِ أيضاً. ليس لأن ما حدث كان صواباً، ولكن لأنني أدركت أنه تم بدافع الحب، حتى وإن كان حباً لم يفهم احتياجاتي وقتها."
لحظة صمت وهدوء سادت المكتب، كأن حمل تقيل اتشال من على قلوبهم هما الاتنين.
(حموكشة بيمسح دموعه تاني: الله! فيلم عربي قديم! أنا لازم أقول الكلمتين دول لـلولو! يمكن قلبها يحن؟)الخطوة الأولى نحو التعافي والمسامحة بدأت.
بعد أيام من القلق والبحث، وفي ليلة مطر خفيف، سمعت نور صوت خربشة ضعيفة على باب الشقة. قلبها دق بسرعة، وقامت تجري تفتح. كان تيمور.
لكن مكنش تيمور الفيلسوف الأنيق بتاع زمان. كان متبهدل، فروه الأبيض متسخ ومبلول، وعينيه الزرقا مطفية وباين عليها الإرهاق والتعب، وخدش صغير على أنفه. شكله كان بيحكي قصة أيام صعبة في الشارع.
"تيمور!" نور مقدرتش تمسك دموعها ووطت حضنته بحذر. "تيمور أنت رجعت! كنت هموت من القلق عليك!"
تيمور مستسلمش للحضن زي زمان، لكنه ممانعش أوي. دخل الشقة بخطوات بطيئة وراح قعد في ركن ضلمة تحت السفرة، بعيد عن النور والضوضاء.
حموكشة، اللي كان قاعد بيحاول يفك شفرة قلب لولو عن طريق تحليل أبراجهم الفلكية على النت، قام وقف وهو مش مصدق. "أبو التماتر رجع! عامل زي اللي خارج من خناقة في سوق الجمعة! شكلك اتبهدلت يا نجم!"
(حموكشة بيكلم تيمور: شكلك كنت بتتخانق عشان لقمة عيش صح؟ لو كنت قعدت هنا كان زمانا ضاربين محشي دلوقتي!)نور بصت لحموكشة بتحذير عشان يسكت، وقربت من تيمور بهدوء. "عايز تاكل حاجة يا تيمور؟ أجيب لك التونة اللي بتحبها؟"
تيمور هز راسه ببطء من غير ما يبص لها.
"لقد عدتُ يا نور،" صوته كان مبحوح وتعبان. "ولكن لا تظني أن شيئًا قد تغير. الجرح لا يزال هنا." حط كفه على صدره. "والأسئلة لا تزال تبحث عن إجابات."
"أنا عارفة يا تيمور، وأنا آسفة." نور قالت بصدق وندم. "آسفة على الألم اللي سببتهولك. مكنتش فاهمة وقتها إنه ممكن يأثر فيك بالشكل ده. كنت صغيرة ووثقت في كلام الدكتور، وفاكرة إني بعمل الصح عشانك."
(حموكشة: طب ما تقولها تسامحك بقى يا أبو التماتر وتخلصنا! الواحد وراه مسلسلات عايز يتابعها!)تيمور رفع عينيه وبص لنور لأول مرة. النظرة مكانتش غاضبة زي آخر مرة، كانت حزينة ومرهقة وفيها لمحة تفهم بسيطة.
"ربما... ربما لم يكن الأمر بيدكِ وحدكِ. ربما هي أقدارنا ككائنات محكومة بقرارات كائنات أخرى تعتقد أنها تعرف مصلحتنا." سكت للحظة. "لقد رأيتُ الكثير في الخارج يا نور... قططًا تكافح من أجل لقمة العيش، وأخرى فقدت صغارها، وحياة قاسية لا ترحم... ربما... ربما 'الاكتمال' الذي كنت أبحث عنه ليس هو المعنى الوحيد للحياة."
نور حست بقلبها بيدق أسرع. هل دي بداية التعافي؟
"المعنى... بنلاقيه في حاجات تانية كتير يا تيمور،" نور قالت بصوت هادي. "في الصداقة، في المعرفة، في مساعدة غيرنا، في تقدير الحاجات البسيطة."
تيمور بص حواليه في الشقة، على كتبه، على مكان نومه المفضل، على نور، وحتى على حموكشة اللي كان بيحاول يخفي اهتمامه بالموقف وهو بيعمل نفسه بيلعب في الموبايل.
"ربما..." تيمور قالها تاني بصوت واطي، كأن بذرة أمل صغيرة بدأت تنبت جواه. "ربما أحتاج لبعض الوقت... لأعيد ترتيب أفكاري... ومكتبتي."
الأيام اللي بعد رجوع تيمور مكانتش سهلة، لكن كانت بداية طريق جديد. تيمور فضل منطوي شوية، بيقضي وقت طويل بيبص من الشباك أو بيقلب في كتبه القديمة، لكن مكنش فيه نفس اليأس المدمر. بدأ يرجع لروتينه القديم، لكن بشكل مختلف.
رجع يقرأ كتبه، لكن بدل ما يناقشها مع نفسه بغرور، بدأ يشارك نور أفكاره ويتناقش معاها بجدية وهدوء. وبدل ما يتريق على غباء حموكشة، بقى ساعات بيحاول يديله نصايح (فلسفية زيادة عن اللزوم طبعاً) في مشاكله العاطفية المستمرة مع لولو.
"يا حموكشة، مشكلة الحب في مجتمعنا المعاصر تكمن في السطحية والبحث عن المظاهر. بدلاً من إرسال أغاني المهرجانات للآنسة لولو، لماذا لا ترسل لها مقالاً عن جماليات الفن التشكيلي عند فان جوخ؟"
حموكشة بصله بيأس: "فان جوخ مين يا أبو التماتر! هي لولو هتعرف تقرا اسمه أصلاً! وبعدين هي شكلها بتحب الورد أكتر من الفن. تفتكر لو جبت لها وردة بلدي من جنينة المكتب دي هتفرح؟"
(وطبعاً لما حموكشة حاول يقطف وردة، اتشوك ووقع في الطين، ولولو شافته من الشباك وقعدت تضحك).نور كمان بدأت تتغير. رؤية تيمور وهو بيحاول يلاقي معنى جديد لحياته رغم الجرح اللي جواه، شجعتها تواجه مشاكلها هي كمان. بدأت تتكلم مع أهلها بهدوء أكتر عن إحساسها بالإهمال، ومبقاش هدفها بس إنهم يعترفو بغلطهم، قد ما هدفها إنهم يفهموا مشاعرها.
"يا ماما أنا مش غيرانة من شريف ومها،" نور قالت في مكالمة تليفونية. "أنا بس ساعات بحس إني مش متشافة، إني مجرد البنت العملية اللي بتعرف تتصرف، مش البنت اللي محتاجة حضن أو كلمة حلوة زي أي حد."
رد مامتها مكانش مثالي، لكن كان فيه بداية تفهم. "يا حبيبتي إحنا بنحبك طبعاً، بس يمكن عشان إنتي اللي دايماً قوية ومستقلة بننسى إنك لسه بنتنا الصغيرة."
الحياة في المكتب خدت شكل جديد. فيه تصالح أكتر، ومحاولات للفهم المتبادل، وإن كان لسه فيه منغصات كوميدية بسبب حموكشة وفلسفة تيمور الزايدة.
تيمور بدأ يهتم كمان بالقطط اللي بتيجي عند الشباك. مبقاش بيبصلهم بتعالي، بقى بيشاركهم أكله ساعات، أو بينصحهم (بلغة القطط طبعاً) إزاي يتجنبوا عربية الزبالة الصبح.
وفي يوم، كانت نور وحموكشة وتيمور قاعدين في المكتب، والجو كان هادي ومختلف. تيمور كان بيكتب حاجة بتركيز في دفتر صغير (باستخدام قلم مخصوص متثبت في خشبة صغيرة نور عملتهاله).
"بتكتب إيه يا فيلسوف؟" حموكشة سأل بفضول.
"أكتب مذكراتي، يا حموكشة. أو بالأحرى، تأملات قط حول عبثية الوجود وجدوى البحث عن التونة بالزيت."
نور ضحكت. "شكلنا هنلاقي كاتب كبير قريب."
تيمور بص لنور، وفي عينيه الزرقا مبقاش فيه أثر للمرارة القديمة، كان فيه سلام وهدوء وتقبل. "لقد فهمتُ الآن يا نور... أن المعنى ليس شيئًا ننتظره أو نفقده بعملية جراحية. المعنى هو ما نصنعه نحن بأنفسنا كل يوم... في صداقة، في كلمة طيبة، في تأمل غروب الشمس من الشباك... أو حتى في الاستمتاع بوجبة شاورما لذيذة."
حموكشة نط من مكانه. "شاورما؟! أخيراً القط ده نطق كلمة عدلة! يلا بينا يا أستاذة نعزم نفسنا على شاورما بمناسبة إن الفيلسوف فاق ورجع لعقله!"
نور بصت لتيمور اللي ميّو بموافقة أرستقراطية، وضحكت. "يلا بينا يا حموكشة. بس العزومة المرة دي على حساب تيمور... من أرباح كتابه الأول!"
"بالتأكيد،" تيمور قال وهو بيغمز بعينه. "ولكن الطحينة زيادة لو سمحتم."وخرج التلاتة من المكتب، كل واحد فيهم شايل جروحه وأسئلته، لكن كمان شايل أمل جديد في رحلة البحث عن المعنى... وعن أحسن محل شاورما في جاردن سيتي.